العبثيّة... وتأجيج الفتنة الداخلية





علي فضّة

بعد حرب عام ١٩٦٧، كان إسحاق رابين رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي، لكن عندما كان بعض القادة السياسيين والعسكريين الغربيين يهنؤونه، على الانتصار الساحق، كان يبدو عليه الفتور، ردّة فعله كانت عادية، وكأنّ عقله كان بمكان آخر، حتى سأله جنرال فرنسي مستغربًا ”لماذا لا تبدو عليك الغبطة، وأنت المنتصر؟“ عندها جاوبه رابين ”انتصرنا، نعم، لكن ماذا بعد ذلك!“
إسحاق رابين كان عدوًا من الطراز العسكري والسياسي الرفيع، كان مستقرئ جيد للصراع؛ أبعاده، حيثياته، أساس منطلق سؤاله العنوان ”ماذا بعد ذلك؟!“ كان الدال على خطواته السياسية بعد أن أصبح رئيسًا لوزراء الكيان، أخيرًا، وكي لا نغوص في تفاصيل حكمه، اغتيل، ومعه تم اغتيال التوازن السياسي في الداخل الإسرائيلي، وبقراءة سريعة، أعتبر أن الدور السياسي الوظيفي للكيان، انتهى، أقله لم يعد أحد من عتاة اليمين الذين تناوبوا على السلطة من بعده بمراحل متفاوتة، يسأل ”ماذا بعد ذلك؟“ حتى وصلنا إلى العصر التلمودي في العقلية السياسية والعسكريّة 
الإسرائيليّة، وهذا حديث آخر ومبحث منفرّد بحد ذاته...

لمحة داخلية عامّة
في يومنا هذا على مستوى الداخل اللبناني، لم يقع تحت المجهر السياسي للبعض، سؤال رابين، «أعلاه»؛ إذا كان البعض بالفعل مراهن على انتصار كلاسيكي أو معنوي للعدو، هو مخطئ، وإذا اعتبر آخرون، أن الفتنة الداخلية هي دخول في عصر "الشرق الأوسط الجديد" ـ كما صرح نتنياهو وحيدًا، هم يخطؤون أيضا، فلا العامل الإسرائيلي المهيمن هو نفسه ولا القوى والتوازنات العالمية ذاتها، حتى القوى المقاومة والرافضة لمشروع الهيمنة هي ذاتها، وليس هناك محافظون جدد أساسًا، كي يصنعوا فشلًا آخر بتحقيقه، العالم تغيّر والداخل اللبناني عند البعض، فكريًا ومنهجيًا لم يتغيّر، كأنّ نظرية «توقف التاريخ» الهيغلية خلقت لأجلهم (مع اعتراضي عليها فلسفيًا ـ كما طرحها هيغل ومن فسّرها من بعده، مدافعًا أو مجتهدًا). أمّا أي منجّر خلفها فهو مساعد غير مباشر بتأجيج نارها في هشيم عدم تشكّل هويّة لبنانية جامعة، هنا المسؤولية على عاتق الجميع، ولا يعني أننا معفيين منها، لسبب بسيط، من يتحمّل غطرسة وإجرام العالم المتجبّر، لن يستقوي على جهلاء، أمّا تأديبهم الذي لا بدّ منه، صيرورة التاريخ كفيلة بهم وقد يصل الأمر إلى لفظهم ”صاحب العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم“ المتنبي، وصفهم والترجمة هي التركيز على أهدافنا، في وقت سيسقطون دون مواجهة.

العاقل يتحكّم، خذوا العبر من السيرورة .

 ٨ أكتوبر، كان مساندة أخلاقيّة سياسيّة كعنوان، حرب غير معلنة كفعل، التطور التدريجي لهذه الحرب، كان له فاعل ومفعول بِه، المفعول بِهِ (الإسرائيلي) في وقت حرب التنقل بين نقاط سحب الذرائع، كانت، كمن يعيش كابوسًا لا يستطيع الاستيقاظ منه، هو نائم وعاجز، لكنّه يعاني بسرير ليس له أساسًا، جرهم غباؤهم الى اغتيال قادة من المقاومة، ضربات على الصعيد النفسي والمعنوي مؤلمة، سيما اغتيال سماحة الشهيد حسن نصر الله، مرَّ حزب الله بمرحلة صعبة جدًا، هم قتلوا الصانع لكنهم لم يقتلوا المصنوع، لذا، بعد العمليات المتكررة في ايلول المنصرم، من البيجر الى الاغتيالات، صبوا جام غطرستهم وإجرامهم على لبنان، على بيئة المقاومة تحديدًا، وأعلنوا عن عملية بريّة محددة، والهدف هو إعادّة مستوطني الشمال، لتكون النتيجة من المصنوع، تهجير أكبر في الداخل المحتل وفشل عمليتهم البريّة، ذلك كان بتصاعد الهجمات الصاروخية المدروسة بالتزامن مع تصاعد في الداخل الفلسطيني المُحتل، غزّة والضفّة وباقي المحوّر، ردّ الفعل الإسرائيلي من أساسه كان دون استراتيجية واضحة، فكان خيارهم المتأصل بشخصيتهم القتل والتدمير الكلي ... لكن ”ماذا بعد ذلك؟!“

إنها مرحلة العبثيّة.

وصل العدو بعد أكثر من سنة من حربه الهولوكوستية، إلى مرحلة من انعدام القدرة على ترجمة أيٍّ من ما فعله، وبدأت التكلفة تكبر، والجدوى معدومة تائهة ضمن إدارته حتى، هنا، يجب الوقوف قليلًا مع الشخصية السياسيّة، والسلطة السياسية والعسكريّة المعرفية، عندما تسأل ”أين الترجمة؟“ وكيف سنفرض شروط سياسية لحربٍ لم يحقق فيها المعلن وغير المعلن أيضا، حماس موجودة وما زالت تقاتل، الحزب يؤلم ولم يخض الحرب التي عنونها السيّد الشهيد بـ ”دون سقوف“، كل هذا الدمار لا يُحقق انتصار، ستالينغراد، لينينغراد، أمثلة الحروب المشابهة أيضًا، عندما تكون التكلفة عالية والترجمة السياسية غائبة، ولا أُفق لها، تسمى هذه الحالة بالعبثيّة، قد دخلنا بها فعليًا.

إذا كان نتنياهو الخالي الوفاض من الأهداف، حيث استهلك كل شيء، يظن أنّ بإمكانه الاستمرار كثيرًا، فهو نفسيًا، في حالة إنكار، وهو أساسًا الواقع في فخّ الاستنزاف، وهذا بالضرورة لا ينعكس على داعميه، يجب أن تتوقف هذه العبثية والفوضى الإقليمية وربما العالمية التي ممكن أن تخلفها، وهذا لا يبدو المسار القادم، لإعادة تشكيل العالم على نحو مختلف، من راهن على فوز ترامب هو كقبطان يقود سفينته بالاتجاه الخاطئ، ترامب سيطفئ الحرائق المبعثرة، وإن لم يكن كذلك فهو يضرب الشخصية الأمريكية في صميمها، عندها نفتح مبحثًا آخر.

هناك من سيقول أوقفوا هذا الهراء. وقد أصبح كذلك بعد الفشل، ليس هناك عاقل يدعم فاشل.


Comments